فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما ذكر بعض الأحكام التي يحتاج المجاهد إلى معرفتها عاد مرة أخرى إلى الحث على الجهاد فقال: {وَلاَ تَهِنُواْ} أي ولا تضعفوا ولا تتوانوا {فِى ابتغاء القوم} أي في طلب الكفار بالقتال، ثم أورد الحجة عليهم في ذلك فقال: {إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون} والمعنى أن حصول الألم قدر مشترك بينكم وبينهم، فلما لم يصر خوف الألم مانعًا لهم عن قتالكم فكيف صار مانعًا لكم عن قتالهم، ثم زاد في تقرير الحجة وبين أن المؤمنين أولى بالمصابرة على القتال من المشركين، لأن المؤمنين مقرون بالثواب والعقاب والحشر والنشر، والمشركين لا يقرون بذلك، فإذا كانوا مع إنكارهم الحشر والنشر يجدون في القتال فأنتم أيها المؤمنون المقرون بأن لكم في هذا الجهاد ثوابًا عظيمًا وعليكم في تركه عقابًا عظيمًا، أولى بأن تكونوا مجدين في هذا الجهاد، وهو المراد من قوله تعالى: {وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ} ويحتمل أيضًا أن يكون المراد من هذا الرجاء ما وعدهم الله تعالى في قوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ} [التوبة: 33] [الفتح: 28] [الصف: 9] وفي قوله: {يا أيها النبي حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} [الأنفال: 64] وفيه وجه ثالث، وهو أنكم تعبدون الإله العالم القادر السميع البصير فيصح منكم أن ترجوا ثوابه، وأما المشركون فإنهم يعبدون الأصنام وهي جمادات، فلا يصح منهم أن يرجوا من تلك الأصنام ثوابًا أو يخافوا منها عقابًا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُواْ} أي لا تَضْعفُوا، وقد تقدّم في آل عمران.
{فِي ابتغاء القوم} طلبهم.
قيل: نزلت في حرب أُحُد حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج في آثار المشركين.
وكان بالمسلمين جراحات، وكان أمر ألاّ يخرج معه إلا من كان في الوقعة، كما تقدّم في آل عمران وقيل: هذا في كل جهاد.
قوله تعالى؛ {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ} أي تتألمون مما أصابكم من الجراح فهم يتألمون أيضًا مما يصيبهم، ولكم مَزِيّة وهي أنكم ترجون ثواب الله وهم لا يرجونه؛ وذلك أن من لا يؤمن بالله لا يرجو من الله شيئًا.
ونظير هذه الآية {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ} [الأنعام؛ 140] وقد تقدّم.
وقرأ عبد الرحمن الأعرج {أن تكونوا} بفتح الهمزة، أي لأن وقرأ منصور ابن المعتمر {إن تكونوا تئْلَمُون} بكسر التاء.
ولا يجوز عند البصريين كسر التاء لثقل الكسر فيها.
ثم قيل: الرجاء هنا بمعنى الخوف؛ لأن من رجا شيئًا فهو غير قاطع بحصوله فلا يخلو من خوف فوت ما يرجو.
وقال الفرّاء والزجاج: لا يُطلق الرجاء بمعنى الخوف إلا مع النفي؛ كقوله تعالى: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] أي لا تخافون لله عَظَمةً.
قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} [الجاثية: 14] أي لا يخافون.
قال القشيري: ولا يبعد ذكر الخوف من غير أن يكون في الكلام نفي، ولكنهما ادعيا أنه لم يوجد ذلك إلا مع النفي. والله أعلم. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {ولا تهنوا في ابتغاء القوم} سبب نزول هذه الآية أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا يوم أحد بعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم فشكوا من ألم الجراحات فقال الله تعالى: {ولا تهنوا} يعني ولا تضعفوا، ولا تتوانوا في ابتغاء القوم يعني في طلب أبي سفيان وأصحابه ثم أورد عليهم الحجة في ذلك وألزمهم بها فقال تعالى: {إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون} يعني أن حصول الألم قدر مشترك بينكم وبينهم وليس ما تكابدون من الوجع وألم الجراح مختصًا لكم بل هم كذلك فإذا لم يكن الألم مانعًا لهم عن قتالكم فكيف يكون مانعًا لكم عن قتالهم وكيف لا تصبرون مثل صبرهم مع أنكم أولى بالصبر منهم لأنكم مقرون بالحشر والنشر والثواب والعقاب والمشركون لا يقرون بذلك كله فأنتم أيها المؤمنون أولى بالجهاد منهم وهو قوله تعالى: {وترجون من الله ما لا يرجون} يعني وتأملون من الله من الثواب في الآخرة ما لا يرجعون وقيل ترجون النصر والظفر في الدنيا وإظهار دينكم على الأديان كلها. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلاَ تَهِنُواْ في ابتغاء القوم} أي لا تضعفوا ولا تتوانوا في طلب الكفار بالقتال.
{إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ} تعليل للنهي وتشجيع لهم أي ليس ما ينالكم من الآلام مختصًا بكم بل الأمر مشترك بينكم وبينهم ثم إنهم يصبرون على ذلك فما لكم أنتم لا تصبرون مع أنكم أولى بالصبر منهم حيث أنكم ترجون وتطمعون من الله تعالى ما لا يخطر لهم ببال من ظهور دينكم الحق على سائر الأديان الباطلة، ومن الثواب الجزيل والنعيم المقيم في الآخرة.
وجوز أن يحمل الرجال على الخوف فالمعنى إن الألم لا ينبغي أن يمنعكم لأن لكم خوفًا من الله تعالى ينبغي أن يحترز عنه فوق الاحتراز عن الألم وليس لهم خوف يلجئهم إلى الألم وهم يختارونه لإعلاء دينهم الباطل فما لكم والوهن ولا يخلو عن بعد، وأبعد منه ما قيل: إن المعنى أن الألم قدر مشترك وأنكم تعبدون الإله العالم القادر السميع البصير الذي يصح أن يرجى منه، وأنهم يعبدون الأصنام التي لا خيرهن يرجى ولا شرهن يخشى.
وقرأ أبو عبد الرحمن الأعرج {إِن تَكُونُواْ} بفتح الهمزة أي لا تهنوا لأن تكونوا تألمون؛ وقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ} تعليل للنهي عن الوهن لأجله، وقرئ {تئلمون كما يئلمون} بكسر حرف المضارعة، والآية قيل: نزلت في الذهاب إلى بدر الصغرى لموعد أبي سفيان يوم أحد، وقيل: نزلت يوم أحد في الذهاب خلف أبي سفيان وعسكره إلى حمراء الأسد، وروي ذلك عن عكرمة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ}
عطف على جملة {وخذوا حذركم إنّ الله أعدّ للكافرين عذابًا مهينًا} [النساء: 102] زيادة في تشجيعهم على قتال الأعداء، وفي تهوين الأعداء في قلوب المسلمين، لأنّ المشركين كانوا أكثر عددًا من المسلمين وأتمّ عُدّة، وما كان شرع قصر الصلاة وأحوال صلاة الخوف، إلاّ تحقيقًا لنفي الوهن في الجهاد.
والابتغاءُ مصدر ابتغى بمعنى بَغي المتعدّي، أي الطلب، وقد تقدّم عند قوله: {أفغير دين الله تبغون} في سورة آل عمران (83).
والمراد به هنا المُبادأة بالغزوِ، وأن لا يتقاعسوا، حتّى يكون المشركون هم المبتدئين بالغزو.
تقول العرب: طلبنا بني فلان، أي غزوناهم.
والمبادئ بالغزو له رعب في قلوب أعدائه.
وزادهم تشجيعًا على طلب العدوّ بأنّ تَألّم الفريقين المتحاربين واحد، إذ كلٌ يخشى بأس الآخر، وبأنّ للمؤمنين مزية على الكافرين، وهي أنّهم يرجون من الله ما لا يرجوه الكفّار، وذلك رجاء الشهادة إن قتلوا، ورجاء ظهور دينه على أيديهم إذا انتصروا، ورجاء الثواب في الأحوال كلّها.
وقوله: {من الله} متعلّق بـ {ترجون}.
وحذف العائد المجرور بمن من جملة {ما لا يرجون} لدلالة حرف الجرّ الذي جُرّ به اسم الموصول عليه، ولك أن تجعل مَا صْدق {ما لا يرجون} هو النصر، فيكون وعدًا للمسلمين بأنّ الله ناصرهم، وبشارة بأنّ المشركين لا يرجون لأنفسهم نصرًا، وأنّهم آيسون منه بما قذف الله في قلوبهم من الرعب، وهذا ممّا يفتّ في ساعدهم.
وعلى هذا الوجه يكون قوله: {من الله} اعتراضًا أو حالًا مقدّمة على المجرور بالحرف، والمعنى على هذا كقوله: {ذلك بأنّ الله مولى الذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم} [محمد: 11]. اهـ.

.قال الفخر:

{وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا} أي لا يكلفكم شيئًا ولا يأمركم ولا ينهاكم إلا بما هو عالم بأنه سبب لصلاحكم في دينكم ودنياكم. اهـ.

.قال الطبري:

{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} يعني بذلك جل ثناؤه: ولم يزل الله {عليمًا} بمصالح خلقه {حكيمًا}، في تدبيره وتقديره. ومن علمه، أيها المؤمنون، بمصالحكم عرّفكم عند حضور صلاتكم وواجب فرض الله عليكم، وأنتم مواقفو عدوكم ما يكون به وصولكم إلى أداء فرض الله عليكم، والسلامة من عدوكم. ومن حكمته بصَّركم ما فيه تأييدكم وتوهينُ كيد عدوكم. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَكَانَ الله عَلِيمًا} مبالغًا في العلم فيعلم مصالحكم وأعمالكم ما تظهرون منها وما تسرون {حَكِيمًا} فيما يأمر وينهى فجدوا في الامتثال لذلك فإن فيه عواقب حميدة وفوزًا بالمطلوب. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)} إلى قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)}
هذا الدرس وثيق الصلة، شديد اللحمة بالدرس السابق والدرس الذي قبله كذلك. فهو تكملة موضوعية لموضوع الدرسين السابقين. ولو الرغبة في إقرار مبادئ المعاملات الدولية- كما يقررها الإسلام- لاعتبرناهما معًا مع هذا الدرس درسًا واحدًا متصلًا. إنما هي حلقات في خط واحد.
إن موضوعه الأساسي هو الهجرة إلى دار الإسلام؛ والحث على انضمام المسلمين المتخلفين في دار الكفر والحرب إلى الصف المسلم المجاهد في سبيل الله بالنفس والمال. واطراح الراحة النسبية والمصلحة كذلك في البقاء بمكة، إلى جوار الأهل والمال!
ولعل هذا هو المقصود بقوله تعالى في مطلع هذا الدرس: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا...}.. فما كان في المدينة قاعدون- إلا المنافقين المعوقين الذين تحدث عنهم بلهجة غير هذه اللهجة في الدرس الماضي!
وقد تلا هذه الفقرة فقرة أخرى فيها تحذير وتهديد لمن يظلون قاعدين هنالك في دار الكفر- وهم قادرون على الهجرة منها بدينهم وعقيدتهم- حتى تتوفاهم الملائكة {ظالمي أنفسهم}.. {فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا}.